ليصدّق الكون حدوثي به | شعر

GerhardLipold

 

تحرقني عيناي

لأنّني من قلب الظلام

أرى كلّ الأشياء مضيئة

لأنّ الشوارع في المدى

تثير بي الحماسة والدموع

مَنْ منّا لم يتشظَّ

عندما كُسِرَ أوّل مرّة

عندما تحسّس شروخه بيده

أو وجد دمه المسفوح

قد جفّ هناك؟

مَنْ منّا لم يترك قبل أن يمضي

للكونِ

شبيهًا يعزّيه

نبتةً أو شلّالًا

أو في الليالي القاسية

قلبًا معلّقًا في السماء

مثل قمرٍ

يسبح في الكون الممتدّ

ويملك جانبًا مظلمًا

تمامًا من حيث يضيء؟

*

 

أعرف شكل الأشياء وهي تنتهي

‏ يتوهّج لون النار وهي تؤول للبرودة

‏وتنتشر رائحة الشغف قبل أن تخفت كالنسيان.

أعبر النفق كلّ يومٍ مرّتين

حيث الضوء يقطّع الظلام إلى أرصفةٍ وشوارع

ويضيّع الضجيج حاجتي

لمعرفة الطريق

معدّةً للرجوع

أو للهرب.

عرفتُ الأشياء وهي تنتهي

مُطْلَقَةً كدمعةٍ مضيئةٍ في العين

لا تنساب ولا تجفّ

لكنّها تحمل البكاء أبدًا

في ثقلها

كحاجة

*

 

أريد أن أحدّثكَ عن السأم

عن الصمت المحشوّ بالتهيّؤات والضجيج

عن الرغبات البعيدة إن تصحو

 بمشاهدة حقول الأرز في فيتنام

واختبار الشموع الطافية في نيودلهي

مئاتِ الأيّام حفرتُ على الجبين مرورها

عشرات السنين

شاهدتُ العالم بعيون الغرباء

حملتُ دهشتهم دون أن أقنّنها

وخضتُ بها

عندما ألتفتُ حولي الآن

لا أرى سوى الطرقات

تناديني

وعندما أطبق جفنيّ

عائدةً إلى البيت يأسًا أو تحسّبًا

أجد الكثير من الحقائب

وأعلم كما تعلم

أنّه لطالما كان بوسعي

اختيار أفضلها

*

 

يلهمني حضورك

وكم يشعرني بالأسى

أنّ غيابك يفعل ذلك أيضًا!

وإن كنتَ في أيّامي مثل الشمس أو الهواء

وُجِدْتَ منذ سنواتٍ طوال

سالبًا إيّاي من حيث تمنح

كلّ أسباب الحياة

في جلدي البارد عندما أردتُ أن أتدفّأ

في عظامي الليّنة عندما احتجتُ أن أنطوي

في صلواتي المبذولة عندما رغبتُ أن أتفتّح

في شتائي الشائع وربيعي المخذول

في صيفي الساحق وخريفي المطلق

جفّفتَ كلّ القصائد العظيمة في فمي

ولا أعلم ماذا أدعو ذلك

موتًا

أم خلودا؟

*

 

إنّني أغمض عينيّ هذه المرّة

دون أيّ رغبةٍ في فتحهما مجدّدًا

هل تُسَمّى هذه نهاية؟

ماذا عليّ أن أرى بعد الآن؟

إن لم يكن اشتباك الغابات في وجهكَ

إن لم تكن نظرتكَ المدوّية، تنزف كجرحٍ ساخنٍ

إن لم يكن عنقكَ المتعالي، يحمل في نهايته رأسك

ماذا أفعل بكلّ صوتٍ لا يصدر منك

بكلّ أبجديّةٍ لا تنتهي إليك؟

كم احتجت إلى بكاءٍ طويل

يأخذ في طريقه رهائنَ لا تُنْسى

صوتٍ نقيٍّ أو عينٍ برّاقةٍ

بالعذوبة الّتي تصحب الألم!

هآنذا أحصل عليه

بتكذيب أنّكَ لا تحبّني

وأنّكَ لا تدفعني بحسمٍ نحو أيّ مصير

علمتُ مرارًا أنّ الحبّ الّذي يرمّم

يشيع الخراب أيضًا

يردي القلوب غامضةً ومجرّدة

ويفترس بفظاعة افتقاده طراوةَ البدايات

أنا مَنْ جعلها الشوق امرأةً

أسمع صوتكَ بعيدًا في الأغنيات فأنتفض

كيف لكَ أن تظلّ واقفًا بينما أتداعى

بينما أعود غريبةً أكثر ممّا مضى

حيث كلّ شيءٍ يرجع مهولًا بالمقارنة؟

كم من حبٍّ عالقٍ في قلبي حسمت!

كم من ليلٍ طويلٍ وباردٍ

سيكون عليّ منذ الآن أن أحيا!

كم من دمعةٍ حارّةٍ لي أن أذرف!

أُراكم أو

أؤجّل

مَنْ يُرجع الدموع إلى داخلي ملحًا؟

مَنْ ينقذ الجلد الرقيق؟

حدّق في أيّامك

ستجدني في كلّ مكانٍ

بيضاءَ وساكنة

أشبه بالريبة الّتي ستعتريك لو رأيتني

امرأةً ماتت للتوّ

*

 

عبر زجاجةٍ مليئةٍ بالماء

رأيتُ الكون بهدف التسلية

ضبابيًّا ومختلًّا

الكائنات بلا ملامح

والكون مجرّد بقعٍ

عائمةٍ على سطح الماء

بإمكاني لو لم أُصَبْ بالدوار

أن أجد لذلك مسمّى

أو أحبس التجربة الشيّقة

داخل مفردةٍ ما.

قبل أن تجيء

كنتُ أفضّل الحياة متأرجحةً

في كلّ مشاهدةٍ أصنعها

بالبلّورات أو

بالماء

وإن كنتُ لا أعتاد

حيث البقعة الخضراء وإن تكرّرتْ

ليست عشبًا على الدوام

والبقعة الزرقاء وإن تمادتْ

فسأخمّن أبدًا أنّها قميصكَ

إذ ليس في مخيّلتي دونَكَ

بحرٌ أو سماء

*

 

فكرتي عن جسدي

غريبةٌ وعدائيّةٌ

كلّما اعتقدتُ أنّه مخزن الخبرات

أو ذاكرتها الحيّة

أشعر بالثقل والشفقة.

عندما أحزن

تنفجر الآلام كمفاجأةٍ مقلقةٍ

في الركب والأذرع

عندما أخاف

تستقرّ قطرات العرق الباردة

على ظهري

كما لو كان موطنها

عندما أفرح

أكتشف الخارق من قدرتي

في الضحك أو

في الطيران

لذا؛ لا يمكنك أن تعاملني بتجرّد

أن تمسكَ يدي مثلًا

متناسيًا حمولتها الثقيلة من اللمسات

أن تنام على صدري معتقدًا

أنّ رأسك هو كلّ ما يقبع فوقه آنذاك

أحيانًا يتصرّف جسدي بطريقةٍ واحدةٍ حيال تجاربَ متناقضة

كأن أرتجف من البرد مثلما أرتجف من الحبّ

وإنّك لن تستطيع أن تميز ذلك أبدًا

ما لم يربكك مرّةً

الوميض الّذي

ينبعث كسهمٍ

من عينيّ

أو ينتشر كشهوة

*

 

يصلح اسمك أن يكون مثالًا

وأعلم أنّ الأسماء كلّها كذلك تصلح

لكنّني مع نظري الدائم في عينيكَ

مع نسيان حواسّي في الإيماءة الدافئة على محيّاكَ

مع اكتشافي السمع باللفظ المُشْبَع في قولكَ

أتتبّع بسلاسةٍ واحترافٍ

مواقع السحر الّذي

يحمله اسمك كمصيرٍ

ويفسّره

كقصيدة

*

 

أعيش قرب النوافذ

وأقول الشعر في ذلك

مَنْ يلمس الأمر مكرّرًا في قصائدي

سيظنّني شغوفةً

أو سجينةً

رغم أنّني أخرج كلّ يومٍ

أمشط الشوارع

وأضحك مع الناس

لكنّني في كلّ مرّةٍ

أقف بها قرب سياجٍ أو ما شابه

يغلبني المكبّل في جسدي

والقصِيّ في روحي

لو أنّ الزيتونة الوحيدة

الّتي أطلّ عليها

من نافذةٍ شحيحةٍ

تغيّر شكلها

كأن تنطلق إلى السماء

بجذعٍ غليظٍ واحدٍ لا يأبه

أو بأفرعٍ ملتويةٍ

لكنّها تنقسم بعد أوّل ياردةٍ

إلى فرعين غليظين

ينطلقان في الفضاء كإشارة نصرٍ

أو كحاجةٍ ملحّةٍ

إلى العناق

*

 

كلّ مرّةٍ

‏أغادر بها البيت

‏أفعل ذلك

كمسافرةٍ

أو كراحلةٍ

أحمل أوراقي الثبوتيّة

وكلّ ما يلزمني

ليصدّق الكون حدوثي به.

قرب النوافذ المطلّة على الطريق

أقف قبل أن أغادر

‏قرب حياتي الماضية

‏لأطمئنّ

‏أنّ أطفالي خلف الجدار الّذي يفصلنا

‏يضحكون

أنا الّتي نجوت بظنوني الدافئة

من اليأس

أعوّل على فرادة العين الغريبة

برؤية المألوف خلّاقًا

من بعيد.

مستغرقةً بالذهاب

أحمل صوتك في رأسي

وأمانيك في سريرتي

تجترح الأغنيات كنبوءة، فأحبّ نفسي

يلوّح لي مجيئكَ

كسرابٍ

أو كحلمٍ

فأحبّ أعدائي

*

 

لا أعرف البلدة الّتي أسكنها

لكنّني أعرف الشجر على جنب الطريق

وأكتفي

من الكرز بميعاد زهرته

من العشبة الطريّة، بعزلتها

تلك الّتي لم يدسها أحد

من الدرج

باحتمالات المسير

بفرصته الأخيرة ليغدو دربًا.

عُرِفْتُ مختلّةً في أكثر حالاتي الحقيقيّة

أرسم مع المطر دوائر متداخلة في الماء

وأدقّ مثله الصخرة بالذكريات

وأقول: لا ذنب لي بهذا، فأنا

قدماي جديدتان على التراب

والأفق من حولي مديدٌ

شجر النخيل الّذي يلفّ المقبرة

يشدّني للذهاب

وصفوف اللوز على القمم البعيدة

تُرْجِعُني

وصوت الجمادات إذ تقلّبها الريح،

يشبه صوت حيوانٍ أليم

مَنْ نشر الأوجاع في سعة الصمت

مَنْ دلق ذكراها في الأوهام

ورجوعها أبدًا في الصدى!

يرتدّ

مرّةً تلو مرّةٍ

عائدًا باللوعة

من مداه

*

 

لأسترجع صورتكَ العالقة في رأسي

أحدّق في السماء

السماء الماثلة في كلّ النهايات

أعثر عليها إذ أريد، كمَنْجاةٍ

أتناساها أحيانًا بالممكن

السماء الممتدّة فوق كلّ شيء

كما لو كانت تغلّف هديّةً

أو تخفي فاجعةً ما!

أحدّق فيها

طويلًا

طويلًا

دون أن أراها

*

 

لسببٍ ما

أجد صعوبةً

في شرح الشكّ الّذي أشعر به

أيّامي مليئةٌ بالآخرين

بحياتهم وممتلكاتهم

يتركونها

ويمضون

أحذيةٌ ودموعٌ وروائح

لأجد نفسي مقفلةً

على أشياء لا تخصّني

أعتني بها كأماناتٍ أو كرهائنَ

لا يرغب أحدٌ في استرجاعها.

لو أنّني عصفورةٌ

تحمل في حوصلتها بيتها

على أيّ شجرة

لو أنّني شجرةٌ

أحمل سيرة الدفء عزاءً أينما وُجِدَتْ

في الحطب أو بالمقاعد

لو أنّني النهر

يشقّ دربه بالماء

على الأرض وفي المخيّلة

لو أنّني الكائنات

وإن اختار لها الآخرون مصائرها

هانئةً ومتيقّنة

*

 

هدوءٌ غريبٌ يشي بالعداوة

ساد البلدة الّتي لا تهدأ

البرودة بالشوارع

تنطبع على المساحات

والصمت الّذي يملأ الفضاء

يطوّق كلّ مَنْ ينصت له

والرجل غريب الأطوار

يرفع يده

بفَزَع

مثل مقصلةٍ أو ساريةٍ

ترفرف باليأس أو التحيّة

مرّ عنّي ولم يلتفت.

ما حاجتي إلى العناوين

إن كنتُ لا أريد الوصول؟

أعيش في كلّ شيءٍ

أنتشر كالطحالب الّتي تلوّن الجدران

وأغنّي مع العشب الّذي يفرش الأرصفة

*

 

أمام عدسةٍ حديثةٍ

أقف كما لو كنتُ أخلّد ذكرى

وآخذ صورةً حيّةً للفقدان.

بالأتربة المتراكمة على الرفوف

بالأنفاس الدافئة على الزجاج

أصنع صفحاتٍ زائلةً

لأكتب عليها اسمك

قبل أن يعود الغبار إلى الريح

والبخار إلى البحر البعيد

قبل أن يحملاك في الجزيئات الخفيّة

مثل لغزٍ لا يُقْلِق ولا يُحَلّ.

وإن كنتَ ترجع دومًا

في الهواء الرطب

وبالرمال

تثير الدموع في عينيّ

مانحًا إيّاي كلّ الأسباب اللازمة

لأغلقهما وأبكي

دون الحاجة إلى شروحاتٍ مربكة

حول دوافعَ طارئةٍ

لامرأةٍ تتألّم

*

 

أتكبّد عناء الأشياء الّتي لم تُسَمَّ

أحمل مشقّة تبريرها على عاتقي.

على التلّة البعيدة

شككتُ في زهر اللوز

دقّقتُ في انتشار الرماديّ على الأرض وفي الجذوع

واحترتُ إن كانت أوضحهنّ صخرةً أو شجرة!

كم رغبتُ في إخفاقاتٍ صغيرة

أبكي عليها دون أن يجفّفني الألم!

لكنّ الدموع تريد مَنْ يشدّها لتنهمر

الجاذبيّة الأرضيّة

أو غيابك مثلًا.

دع عنك الأسماء يا حبيبي

ستعرفني مقيمةً فيما أرى

أسمّي الحزن الّذي لا يصير غضبًا

ولا يصير دموعًا

لكنّه يظلّ عالقًا

في كلّ مشاهدةٍ أقصدها

وعند كلّ سؤال

*

 

حزينةٌ لأنّني

عرفتُ جسدي كدرسٍ

وحملتُ قلبي كتجربة

ولأنّ صوتي هذا الّذي

أسمّي به الرفعة والعزاء

شَحَذَتْه الأغنيات كسكّينٍ

تناط به الجراح

إذ ليس بوسعي

أن أقول ذهاب الشعر في إطراقتك

وأظلّ سالمةً

ولا أملك في شوقي إليك أن أثني

على الصمت كفضيلة

 


 

آمنة أبو صفط

 

 

 

شاعرة من نابلس. درست بكالوريوس علم النفسـ تخصّص الإرشاد النفسيّ، وماجستير علم الاجتماع.